top of page

قراءة نقدية/ تفكيك الثنائيات وتأويل الوجود، في نص "هنا وهناك" للدكتور انور غني الموسوي - العراق / بقلم فاطمة عبدالله - السويد

Mar 29

4 min read

0

1

0



قراءة نقدية

إنجاز : فاطمة عبدالله

نص د. أنور غني

تفكيك الثنائيات وتأويل الوجود، قراءة نقدية في بنية ومعنى "هنا وهناك""

Deconstructing Dualities and Interpreting Existence: A Critical Reading of the Structure and Meaning of "Here and There

 النص الأدبي بوصفه فضاءً للتأمل والتأويل

يؤكد تزفيتان تودوروف أن "الأدب ليس مجرد سرد للأحداث، بل هو تأمل في الوجود عبر اللغة والصور"، مما يعكس رؤية تتجاوز الوصف المباشر إلى استكشاف البنية العميقة للنصوص. تنسجم هذه الفكرة مع طبيعة نص "هنا وهناك"، الذي لا يعتمد على حبكة تقليدية، بل يقدم تجربة شعورية قائمة على التضاد المكاني والتأمل الوجداني، حيث يتقاطع التجريب السردي مع البعد الفلسفي للوجود.

 العنوان والثنائية الضدية ، جدلية البنية والدلالة

يحمل العنوان "هنا وهناك" دلالة ثنائية ضدية تتماشى مع المقاربة البنيوية، إذ يرى رولان بارت أن المعنى يتشكل عبر تعارض العناصر داخل النص. تعكس هذه الثنائية توتراً وجودياً بين فضاءين متناقضين:

"هنا": فضاء الجفاف والاختناق.

"هناك": رمز للنقاء والانطلاق.

غير أن هذه الثنائية لا تبقى ثابتة حيث يرى هوسرل أن المكان ليس مجرد موقع جغرافي، بل تجربة ذاتية مرتبطة بالحالة النفسية، مما يجعل "هنا" و"هناك" تجسيداً للقلق والخلاص في آن واحد.

كما أن هذه الثنائية تتعرض لانزياح دلالي، حيث لا يمكن الجزم بحدود فاصلة بين "هنا" و"هناك"، مما يعكس استمرارية التبدل في المعنى، وفقًا لمفهوم دريدا عن تأجيل المعنى وانفتاحه على قراءات متعددة.

 البنية السردية ، تفكيك الحبكة والانفتاح على التأويل

 النص المفتوح وتجريب تيار الوعي

يعتمد النص بنية سردية غير تقليدية، متجاوزاً الحبكة الكلاسيكية لصالح التدفق الشعوري والوصف التأملي، مما يتماشى مع مفهوم "النص المفتوح" عند إيكو، حيث يُترك إنتاج المعنى للقارئ. يتجلى ذلك في:

تفكيك الحبكة اي غياب التسلسل الخطي للأحداث.

هيمنة الذاتية يتجلى في اختفاء الشخصيات التقليدية لصالح الأصوات الشعورية الداخلية.

استخدام تيار الوعي من خلال تدفق الصور والمشاعر دون ترتيب زمني صارم.

هذه البنية تمثل إعادة تشكيل للترابط السردي داخل النص، حيث يظهر التفكيك أن هذا ليس مجرد تجربة شكلية، بل هو انعكاس لطبيعة الوعي الإنساني. يصبح الإدراك الداخلي هو المحرك الأساسي للنص، مما يعزز الطبيعة غير المستقرة للمعنى ويفتح المجال أمام تعددية القراءات.

تفكيك الزمن والمكان ،الحداثة والتجريب الأدبي

 الزمن كحالة شعورية

لا يتبع الزمن في النص تسلسلاً خطياً ، بل يظهر كحالة دائرية متكررة تعكس العزلة والجمود في "هنا"، مقابل الانطلاق والحرية في "هناك"، كما في المقطع:

"يجلب لي كل يوم شهقة خريفية مليئة بالموت."

في هذا السياق، يمكن فهم الزمن كعنصر تنظيمي يعيد تشكيل النص وفق بنية داخلية خاصة به، حيث يصبح ليس مجرد بعد خارجي، بل تجربة شعورية ذاتية. من جهة أخرى، يظهر أن الزمن ذاته يصبح غير مستقر، مع تداخل أزمنة الماضي والحاضر، مما يعزز الطبيعة الانسيابية للنص ويضفي عليه طابعاً ديناميكياً.

التكرار والتضاد كأسلوب بنائي

يستخدم النص التضاد كأسلوب دلالي يبرز الصراع الوجودي بين ثنائيات مثل:

الموت / الحياة "يجلب لي كل يوم شهقة خريفية مليئة بالموت."

الجفاف / النقاء "هنا، فوق هذا النبض، تكمن الوعود القاحلة."

القبح / الجمال "لكن هناك، نهرٌ عذبٌ كتفاحة، تعيش الفتيات تحت أجنحته بين الورود."

تُبرز هذه التقابلات مدى التوتر السردي الذي يحرك النص، ويعزز بعده التأويلي المفتوح.

 اللغة والصور البلاغية، بين التفكيك والاستعارة الحداثية

 التداخل الحسي (Synesthesia) والتجريب الأسلوبي

تعتمد اللغة على التداخل الحسي، مما يدمج الحواس المختلفة في صور غير تقليدية، كما في:

"يئن صدى الدخان كطائر رمادي منهك تحت مطر مُغبر."

 هذه الصور تعيد تشكيل العلاقات الدلالية داخل النص.

و تعكس البعد الحسي والتجربة الذاتية للذات الساردة.

وكذلك تكشف تفكك المعنى وانزياحه داخل النص، حيث تنزلق الدلالة بين الحسي والمجرد دون استقرار نهائي.

 الذات والموضوع ،تلاشي الحدود التقليدية

تتلاشى الحدود بين الذاتي والموضوعي في النص، حيث تتحول الطبيعة إلى انعكاس للحالة الشعورية، كما في:

"يجلب لي كل يوم شهقة خريفية مليئة بالموت."

يتوافق هذا مع "اللاشعور النصي" عند فرويد، حيث يصبح النص فضاءً يتقاطع فيه الواقعي والرمزي دون حدود واضحة، مما يرسخ الطابع الحداثي التجريبي للنص.

 البعد الفلسفي القلق والبحث عن المعنى

"تعكس الثنائية المركزية للنص توتراً وجودياً بين الحياة والموت، الحلم والواقع، مما يتقاطع مع مفهوم "القلق الوجودي" عند كيركيغارد. و يفتح المجال لتأملات فلسفية حول القلق الوجودي. تتجلى هذه الثنائيات كعناصر دلالية تؤثر في تطور النص، حيث يصبح العالم امتداداً للمشاعر الداخلية في تجربة ذاتية عميقة، بينما تظل المعاني مفتوحة على احتمالات متعددة، مما يعكس الطبيعة المتجددة للمعنى في الأدب الحداثي."

 جمالية اللغة وعمق التأمل الفلسفي

يمثل "هنا وهناك" نموذجاً للأدب الحداثي الذي يتجاوز الوصف التقليدي، ليخلق فضاءً تأملياً قائماً على تفكيك البنية وإعادة تشكيل الدلالة. وهكذا يتضح أن النص يستند إلى تعددية دلالية تمنحه انفتاحاً تأويلياً ، مما يعزز قيمته الجمالية والفكرية. وكما يرى موريس بلانشو، فإن "الأدب لا ينقل مجرد قصة، بل يعيد تشكيل العالم عبر اللغة"، وهو ما يتحقق بوضوح في هذا النص. إذ يتجاوز كونه تجربة سردية ليصبح تعبيراً عن قلق وجودي وتأمل فلسفي في العلاقة بين الذات والعالم. بذلك، يرسخ النص موقعه ضمن التيارات الحداثية التي تعيد تعريف وظيفة الأدب، جاعلةً منه فضاءً ديناميكياً يعيد إنتاج المعنى باستمرار.

                                                    ................................

النص :

هنا وهناك

هنا يئن صدى الدخان كطائر رمادي منهك تحت مطر مُغبر. يُحدثني بألمٍ مُمل، بعينين واسعتين تخجلان من شهقاتهما المرة كسحب سماءٍ باكية. يجلب لي كل يوم شهقة خريفية مليئة بالموت، يا له من انين مُر. هنا، فوق هذا النبض وفي مياه شرايينه الغائمة، تكمن الوعود القاحلة. هنا، تحت هذه الخيمة الكئيبة، حكايات رمال يابسة.

لكن هناك، نهرٌ عذبٌ كتفاحة، تعيش الفتيات تحت أجنحته بين الورود، وترقص الإوزات على مياهه كأغاني الشمس. طيور الحقل بألوانها الزاهية تلعب فرحًا على أراجيحه. أوراق الشجر الندية تملأ المكان بأغاني الصباح التي بلّلها النسيم. كم أدهشني الهواء الناعم، كان يتنقل بين أنفاس الظلال، ويداعب في البركة أحلامًا لخدود بطعم اللؤلؤ.

د انور غني




United States of America

3/29/2025

Related Posts

Comments

Share Your ThoughtsBe the first to write a comment.
bottom of page